تحدي السفهاء للعقلاء في أسفار التاريخ ودواوين الشعر

غير متواجد حالياً

ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت
فدل عليها صوتها حية البحر!

(الأخطل)

من المشهور المتواتر في كتب التاريخ أن (نقفور) ملك الروم 107 - 121) أخذته السفاهة فكتب لهارون الرشيد رسالة طويلة قبيحة كلها تهديد ووعيد وأنه سيفعل به وبملكه وبالعرب والمسلمين معه الأفاعيل ويتركهم أثراً بعد عين..

وغني عن القول الشهرة الكبرى التي عرف بها هارون الرشيد أشهر ملوك بني العباس وأقواهم، حيث كان يملك أكثر من نصف العالم، وكان له سطوة ومهابة، شجاعة وقوة، وكان يحج عاماً، ويغزو عاماً، وليس - كما زعمت أساطير ألف ليلة وليلة وادعاءات كتاب الأغاني - أسير الغناء والغواني، والبذخ والترف، فتلك الادعاءات من مكائد الشعوبيين (العنصريين) وأساطير الأولين، ولا أدل على ذلك من رواياتها المفصلة والمخجلة للحياء لما يدور داخل غرف هارون الرشيد فهل يقبل عاقل أو يصدق أن يعرف هؤلاء الأدعياء ما يجري في الغرف المغلقة داخل القصور المحصنة للملوك والخلفاء لولا الدعاية المغرضة والإشاعة المفرطة والكره العميق للعرب والمسلمين؟
وقد فند تلك الادعاءات علامة العرب والمسلمين عبدالرحمن ابن خلدون في مقدمته الشهيرة وفي تاريخه الكبير حيث عرض الروايات على العقل ووضع لعلم الاجتماع نظريات وقوانين لا تزال سارية إلى اليوم.
الشاهد أن ملك الروم نقفور أرسل لهارون الرشيد ملك العرب والمسملين رسالة طويلة جداً كلها تهديد ووعيد وسفاهة، وحين قرأها أمير المؤمنين هارون الرشيد وهو في عاصمة الدنيا وقتها بغداد، استشاط غضباً ورد عليه برد موجز قاتل، قال لكاتبه..

اكتب:
«من أمير المؤمنين هارون الرشيد الى نقفور كلب الروم: الجواب ما تراه لا ما تسمعه»!!.
وسار إليه فوراً بجيش لجب عرم يقوده هارون الرشيد نفسه فأدبه أشد التأديب وعاقبه أقسى العقوبة على سفاهته ورسالته الحمقاء:
فهل يعقل أن يقود هذا الجيش العظيم هارون الرشيد - ويقود عدة جيوش بنفسه - وهو كما تزعم أساطير ألف ليلة وأوهام الأغاني - أسير الجواري والغواني، ناعم الجسم والكف، عاشق العبث والترف؟!
«حدث العاقل بما لا يليق فإن صدق فلا عقل له» روايات أن الرشيد كان يحج عاماً ويغزو عاماً متواترة رواها ألوف عن ألوف، والحج والغزو أمور تتم جهاراً نهاراً على عيون الأشهاد، أما ما زعموا أنه يدور في غرف القصر المغلقة فهو مجرد افتراء وتلفيق فمن يجرؤ على رؤية نساء الخليفة ومعرفة ما يدور في حياته الخاصة؟ ولكنه التلفيق والإشاعة.
٭٭٭
والسفيه الشرير يجني على نفسه دائماً «على نفسها جنت براقش» ويجني كثيراً على قومه ويطلق عليه في المأثور الشعبي «الثور» ومنه المثل «ثور غبر على قرنه» و«المقرود» ومنه قول حميدان الشويعر:

هون الأمور مباديها
قدح ولهيب تاليها
الفتنة نايمة دايم
مار الأشرار توعيها
يشب الفتنة مقرود
ويعلقها من لا يطفيها
فإلى علقت ثم اشتبت
بالحرب نحاش مشاريها
لحقت برجال وأجواد
دوم تنصى قهاويها
ادفع الشر دامك تقدر
حتى تنصر بتاليها
وانظر رب ينظر فوقك
يميت النفس ويحييها
واردع نفسك عن العيلة
حاذور الزودا تهويها

قوله: دوم تنصى قهاويها: في كناية عن كرمهم وجودهم فهم يضيفون ويتداعون للكرم.. ليست قهاوي اليوم! وقوله: واردع نفسك عن العيلة: العيلة هي الخطأ على الآخرين والاعتداء والبدء بالشر وهو عين مايفعله السفهاء.

ويقولون عن السفيه (عير ينكر) قال حميدان:
النعمة حمراً جياشه
ما يملكها كود وثقه
والجوع خديد يم أجواد
ودك ياطا كل زنقه
ليت ان الفقر يشاورني
كان ادهك به كل زنقه
كان ادهك به عير ينكر
عقب الصمعا صلف نهقه»!!

(والصمعا) هي النبات المفضل لدى العير فإذا وجدها التهمها بنهم وشهوة حتى ينتفخ بطنه فلا يشكر بعدها بل يرفع صوته المنكر بالنهيق!!

ويروى أن قائداً صغيراً وسفيهاً انشق على القيصر الذي كان قد بعثه لمهمة عسكرية بعيدة، واستقل بالجيش الصغير الذي معه لسفاهته وحماقته، وأرسل رسالة تهديد شديد طويلة للقيصر يقول فيها: إنني سائر إليك بجندي فإذا وصلت إليك أخذت نساءك وصادرت مالك وصرت القيصر مكانك وقتلتك أو تسلم لي حالاً..

فرد عليه القيصر بكلمة واحدة «إذا..»! وسار هو إليه فقتله شر قتلة!

إن مثلنا الشعبي يقول للسفيه المغرور بقوته وهو ضعيف إذا تحدى وهدد من هو أقوى منه مراراً (هذا ضلع إن طاح عليك كسرك وان طحت عليه انكسرت) والضلع هو الجبل (فصيح) ونحوه قول الشاعر:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها
فما أوهاها وأوهى قرنه الوعل!

(وا معتصماه)!
في سنة 223ه (838م) اعتدى ملك الروم (ثيو فيلوس) على (زبطرة) بلد إسلامي في طرف بلد الروم، فدمرها ونكل بأهلها وسبى نساءها فصرخت امرأة مسلمة (وا معتصماه) وبلغ الخبر الخليفة المعتصم فغضب غضباً شديداً وسار للروم بجيش عظيم وسأل عن أكرم مدن الروم عليهم فقالوا له (عمورية) فقصدها وفتحها وهزم ملك الروم وخلص نساء وأسرى المسلمين وكان بصحبته الشاعر ابو تمام فقال قصيدته المشهورة (71 بيتاً كما في ديوانه بشرح التبريزي 1/40-73) ومنها:

السيف أصدق إنباءً من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
لبيت صوتاً زبطريا هرقت له
كأس الكرى ورضاب الخرد العرب
أجبته معلناً بالسيف منصلتاً
ولو أجبت بغير السيف لم تجب
تدبير معتصم بالله، منتقم
لله، مرتقب في الله مرتغب
يايوم وقعة عمورية انصرفت
منك المنى حفلاً معسولة الحلب
من عهد إسكندر أو قبل ذلك قد
شابت نواصي الليل وهي لم تشب
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به
نظم من الشعر أو نثر من الخطب
فتح تفتح أبواب السماء له
وتبرز الأرض في أثوابها القشب
لقد تركت أمير المؤمنين بها
للنار يوماً ذليل الصخر والخشب
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى
يشله وسطها صبح من اللهب
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت
عن لونها أو كأن الشمس لم تغب
ضوء من النار، والظلماء عاكفة
وظلمة من دخان في ضحى شحب
إن الحمامين من بيض ومن سمر
دلوا الحياتين من ماء ومن عشب
لما رأى الحرب رأي العين «توفلس»
والحرب مشتقة المعنى من الحرب
غدا يصرف بالأموال جريتها
فعزه البحر ذو التيار والحدب
هيهات!.. زعزعت الأرض الوقور به
من غزو محتسب لا غزو مكتسب

منقول كما هو :

تحيتي